ثرثرة فوق النيل و جمال عبدالناصر وموقفه من الفن الصادق

عبدالناصر يقرأ ثرثرة فوق النيل

بقلم: رجاء النقاش

تفضل الأستاذ الكبير سامي شرف بالاتصال بي وحدثني بالتفصيل عن موقف الزعيم الراحل جمال عبدالناصر من رواية نجيب محفوظ “ثرثرة فوق النيل‏,” وقد صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولى سنة‏ 1966,‏ وذلك بعد نشرها مسلسلة في الأهرام‏,‏ وكنت قد أشرت منذ أسبوعين إلى غضب بعض المسئولين الكبار في ذلك الوقت على الرواية وعلى نجيب محفوظ‏,‏ وكان على رأس الغاضبين المشير عبدالحكيم عامر‏,‏ حيث كان هناك من أبلغ نجيب محفوظ أن المشير بعد أن قرأ الرواية هدد وتوعد بإنزال العقاب بنجيب محفوظ بسبب ما جاء في الرواية من نقد عنيف لسلبيات قائمة في المجتمع‏,‏ وسمع البعض المشير وهو يقول‏:‏ نجيب زودها قوي ويجب تأديبه ووقفه عند حده‏.‏ وقد كان حديث الأستاذ سامي شرف معي يدور حول ثرثرة فوق النيل بالتحديد‏,‏ وهذه محاولة لتقديم تلخيص دقيق بقدر ما أستطيع لما سمعته من الأستاذ الكبير‏:‏
بعد صدور رواية ثرثرة فوق النيل إتصل الفنان المعروف أحمد مظهر‏,‏ وهو صديق قديم وحميم لنجيب محفوظ‏,‏ بالأستاذ سامي شرف الذي كان مديراً لمكتب الرئيس عبدالناصر في ذلك الوقت‏,‏ وقال له‏:‏ إن نجيب محفوظ يشعر بقلق شديد مما يسمعه من هجوم عليه وعلى رواية ثرثرة فوق النيل من جانب بعض المسئولين وعلى رأسهم المشير عامر‏,‏ وأن نجيب محفوظ لا يجد مبرراً لهذا الغضب الرسمي عليه‏,‏ فهو ليس بأي حال من الأحوال من أعداء الثورة‏,‏ وأن ما جاء في الرواية من نقد لبعض السلبيات هو نقد من داخل الثورة وليس من خارجها‏,‏ أي أنه نقد إيجابي يهدف إلى تصحيح بعض الأخطاء الواضحة حتى تسير سفينة البلاد دون كوارث أو أزمات‏.‏ وهذا هو واجب أديب كبير صاحب ضمير وطني مثل نجيب محفوظ‏.‏ وطلب الفنان أحمد مظهر من السيد سامي شرف أن يتفضل بعرض الموضوع على الرئيس عبدالناصر‏,‏ والرئيس يعرف أحمد مظهر جيداً,‏ فقد كان زميلاً له في الكلية الحربية‏,‏ كما كان واحداً من الضباط الأحرار‏ كما هو معروف‏,‏ وقد كلفه عبدالناصر قبل الثورة ببعض الاتصالات السياسية‏,‏ خاصة أن أحمد مظهر كان متزوجاً من إبنة وزير الخارجية الشهير في عهد الوفد الدكتور محمد صلاح الدين‏.‏

إستجاب السيد سامي شرف لِما طلبه أحمد مظهر من عرض موضوع رواية ثرثرة فوق النيل على الرئيس عبدالناصر‏,‏ وكان السيد سامي شرف يعلم بأن هناك غضباً ضد الرواية بين عدد من كبار رجال السلطة في ذلك الوقت‏,‏ وكانت بداية الغضب الشديد عند صلاح نصر رئيس المخابرات آنذاك‏,‏ ومعه مسئولون آخرون مثل شمس بدران‏,‏ وتم تصعيد الغضب إلى المشير عامر‏.‏ ومعنى هذا أن نسبة الغضب على الرواية كانت أعلى بكثير مما تصوره نجيب محفوظ وأحمد مظهر‏,‏ وكان هناك مسئولون كبار آخرون في مواقع السلطة من الغاضبين على الرواية والمطالِبين بالتصرف معها‏,‏ ولم يكن التصرف يعني بالطبع سوى المصادرة ثم توقيع عقاب مناسب على نجيب محفوظ‏,‏ والله وحده يعلم ماذا يمكن أن يكون مثل العقاب الذي كان يدور في خاطر رجال أشداء لهم كلمة مسموعة ونفوذ واسع في ذلك الوقت مثل صلاح نصر وشمس بدران‏,‏ فضلاً عن المشير عامر‏.‏
عرض السيد سامي شرف الموضوع بكل تفاصيله على الرئيس عبدالناصر‏,‏ وأوضح أمامه قلق نجيب محفوظ‏,‏ كما وضع أمامه صورة من غضب المسئولين الثائرين على الرواية وصاحبها‏.‏
وطلب عبدالناصر نسخة من الرواية وقرأها‏,‏ ويروي السيد سامي شرف ما قاله عبدالناصر بعد قراءة الرواية‏,‏ وأحاول هنا أن أتذكر ما سمعته من الأستاذ الكبير سامي شرف بدقة متناهية‏..‏
ماذا قال عبدالناصر؟ قال ما معناه‏:‏
‏1‏ ـ إحنا عندنا كام نجيب محفوظ؟ إنه فريد في مكانته وقيمته وموهبته‏,‏ ومن واجبنا أن نحرص عليه كما نحرص على أي تراث قومي وطني يخص مصر والمصريين‏.‏
‏2‏ ـ إن نجيب محفوظ لم يثبُت عليه أبداً سوء نية تجاه الثورة مثل غيره من بعض الكتاب المعروفين وهنا ذكر عبدالناصر إسماً كبيراً محدداً,‏ ولكن الأستاذ سامي شرف طلب مني عدم ذكر الإسم لأسباب كثيرة لا مجال للحديث عنها هنا‏,‏ وأنا أعد الأستاذ الكبير بعدم ذكر الإسم لأحد على الإطلاق‏..‏ حتي لو كان ذلك بطلب من النيابة العامة‏!.‏
‏3‏ ـ الأهم من ذلك كله‏,‏ أن رواية ثرثرة فوق النيل فيها نقد‏,‏ وأن النقد الذي تنطوي عليه صحيح‏,‏ وأن علينا أن نعترف بوجود السلبيات التي تشير إليها ونعمل على الخلاص منها بدلاً من أن نضع رأسنا في الرمال وننكر حقيقة ما تُنبهنا إليه الرواية‏,‏ وكأنه غير موجود‏..‏ رغم أنه موجود ونحن نعترف بيننا وبين أنفسنا بذلك‏.‏
تلك هي خلاصة دقيقة لكلام عبدالناصر بعد أن قرأ ثرثرة فوق النيل‏,‏ والمرجع فيه هو السيد سامي شرف وهو عندي مرجع صادق وأمين‏.‏
بعد ذلك كان هناك لقاء بين المشير عامر وبين عبدالناصر حول الرواية التي أوشكت فيما يبدو أن تشعل حريقاً كبيراً كاد يلتهم في طريقه نجيب محفوظ‏..‏ وفي اللقاء بين الرئيس عبدالناصر والمشير عامر شرح عبدالناصر وجهة نظره بوضوح تام‏,‏ وطلب استبعاد أي إجراء سلبي في حق الرواية وكاتبها الكبير‏.‏ واقتنع المشير عامر بوجهة نظر عبدالناصر وزال غضبه علي الرواية والكاتب‏,‏ وعندما اقتنع المشير بذلك‏,‏ تابعه في الإقتناع صلاح نصر وشمس بدران وآخرون من الذين كانوا بين الغاضبين الثائرين المطالِبين بمصادرة الرواية ومعاقبة نجيب محفوظ‏.‏ … بقي أن نتساءل ماذا كان في ثرثرة فوق النيل من نقد أثار كل هذه العاصفة؟‏..‏

أفضل إجابة هنا هي ما سمعته من نجيب محفوظ في حواراتي معه‏,‏ حيث يقول‏:‏ ظهرت رواية ثرثرة فوق النيل في عز مجد عبدالناصر‏,‏ وفي وقت كان فيه الإعلام الرسمي يحاول ليل نهار أن يؤكد انتصار الثورة والنظام وانعدام السلبيات والأخطاء‏,‏ فجاءت ثرثرة فوق النيل لتنبه إلى كارثة قومية كانت قد بدأت تطل برأسها على السطح‏,‏ وكان لابد أن يكون لها نتائجها الخطيرة‏,‏ وكنت أعني بذلك محنة الضياع وعدم الإحساس بالانتماء‏,‏

وهي المحنة التي بدأ الناس يعانون منها‏,‏ خاصة في أوساط المثقفين الذين انعزلوا عن المجتمع‏,‏ وأصبحوا يعيشون في شبه غيبوبة‏,‏ فلا أحد يعطيهم الفرصة المناسبة للعمل والمشاركة‏,‏ ولا هم قادرون على رؤية الطرق الصحيحة‏,‏ وفي المرة الوحيدة التي حاولوا فيها أن يعرفوا الطريق ارتكبوا حادثة رهيبة في شارع الهرم‏,‏ ولاذوا بالفرار‏.‏

هذا بعض ما جاء في ثرثرة فوق النيل‏,‏ وقد كانت شجاعة من نجيب محفوظ أن يعبر عن هذه السلبيات‏,‏ وكانت شجاعة أكبر من عبدالناصر أن يقول عن الرواية إنها صادقة‏,‏ وإن علينا أن نستفيد من هذا النقد السديد الخالي من سوء النية‏.
———————————————
على حد علمي هذا نفس ما حدث تجاه فيلم “شيء من الخوف”.. الرقابة تمنع ولما الخبر يوصل لعبدالناصر فيصرح بالعرض.

#Fatty_Elfoly

Leave a comment